فصل: تفسير الآيات (13- 26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (1- 12):

{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)}.
الواقعة: من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها، كما قال: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الحاقة: 15]
وقوله: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أي: ليس لوقوعها إذا أراد الله كونها صارف يصرفها، ولا دافع يدفعها، كما قال: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الشورى: 47]، وقال: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ. لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج: 1، 2]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 73].
ومعنى {كَاذِبَة}- كما قال محمد بن كعب-: لابد أن تكون.
وقال قتادة: ليس فيها مثنوية ولا ارتداد ولا رجعة.
قال ابن جرير: والكاذبة: مصدر كالعاقبة والعافية.
وقوله: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} أي: تحفض أقواما إلى أسفل سافلين إلى الجحيم، وإن كانوا في الدنيا أعزّاء. وترفع آخرين إلى أعلى عليّين، إلى النعيم المقيم، وإن كانوا في الدنيا وضعاء.
وهكذا قال الحسن وقتادة، وغيرهما.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يزيد بن عبد الرحمن بن مصعب المعنى، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، عن أبيه، عن سِمَاك، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} تخفض أناسًا وترفع آخرين.
وقال عبيد الله العتكي، عن عثمان بن سراقة، ابن خالة عمر بن الخطاب: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} قال: الساعة خفضت أعداء الله إلى النار، ورفعت أولياء الله إلى الجنة.
وقال محمد بن كعب: تخفض رجالا كانوا في الدنيا مرتفعين، وترفع رجالا كانوا في الدنيا مخفوضين.
وقال السُّدِّيّ: خفضت المتكبرين، ورفعت المتواضعين.
وقال العَوْفِيّ، عن ابن عباس: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} أسمعت القريب والبعيد.
وقال عكرمة: خفضت فأسمعت الأدنى، ورفعت فأسمعت الأقصى.
وكذا قال الضحاك، وقتادة.
وقوله: {إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا} أي: حركت تحريكا فاهتزت واضطربت بطولها وعرضها. ولهذا قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وغير واحد في قوله: {إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا} أي: زلزلت زلزالا شديدا.
وقال الربيع بن أنس: ترج بما فيها كرج الغربال بما فيه.
وهذه كقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1].
وقوله: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} أي: فُتِّتَتْ فَتًّا. قاله ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمَة، وقتادة، وغيرهم.
وقال ابن زيد: صارت الجبال كما قال الله تعالى: {كَثِيبًا مَهِيلا} [المزمل: 14].
وقوله: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا}، قال أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي، رضي الله عنه: {هَبَاءً مُنْبَثًّا}.
كرهَج الغبار يسطع ثم يذهب، فلا يبقى منه شيء.
وقال العَوْفِيّ عن ابن عباس في قوله: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا}: الهباء الذي يطير من النار، إذا اضطرمت يطير منه الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئا.
وقال عكرمة: المنبث: الذي ذرته الريح وبثته.
وقال قتادة: {هَبَاءً مُنْبَثًّا} كيبيس الشجر الذي تذروه الرياح.
وهذه الآية كأخواتها الدالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة، وذهابها وتسييرها ونسفها- أي قلعها- وصيرورتها كالعهن المنفوش.
وقوله: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} أي: ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف: قوم عن يمين العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيمن، ويؤتون كتبهم بأيمانهم، ويؤخذ بهم ذات اليمين. قال السُّدِّيّ: وهم جمهور أهل الجنة. وآخرون عن يسار العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيسر، ويؤتون كتبهم بشمائلهم، ويؤخذ بهم ذات الشمال، وهم عامة أهل النار- عياذًا بالله من صنيعهم- وطائفة سابقون بين يديه وهم أخص وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين الذين هم سادتهم، فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء، وهم أقل عددا من أصحاب اليمين؛ ولهذا قال: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم، وهكذا ذكرهم في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} الآية [فاطر: 32]، وذلك على أحد القولين في الظالم لنفسه كما تقدم بيانه.
قال سفيان الثوري، عن جابر الجعفي، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} قال: هي التي في سورة الملائكة: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}.
وقال ابن جُرَيْج عن ابن عباس: هذه الأزواج الثلاثة هم المذكورون في آخر السورة وفي سورة الملائكة.
وقال يزيد الرقاشي: سألت ابن عباس عن قوله: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} قال: أصنافا ثلاثة.
وقال مجاهد: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} قال: يعني: فرقا ثلاثة.
وقال ميمون بن مِهْران: أفواجا ثلاثة.
وقال عُبَيد الله العتكي، عن عثمان بن سراقة ابن خالة عمر بن الخطاب: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} اثنان في الجنة، وواحد في النار.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا الوليد بن أبي ثور، عن سِمَاك، عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7] قال: الضرباء، كل رجل من قوم كانوا يعملون عمله، وذلك بأن الله يقول: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً. فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} قال: هم الضرباء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد الله المثنى، حدثنا البراء الغنوي، حدثنا الحسن، عن معاذ بن جبل؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ}، {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ} فقبض بيده قبضتين فقال: «هذه للجنة ولا أبالي، وهذه للنار ولا أبالي».
وقال أحمد أيضا: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثنا خالد بن أبي عمران، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «أتدرون من السابقون إلى ظل يوم القيامة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم».
وقال محمد بن كعب وأبو حَرْزَةَ يعقوب بن مجاهد: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}: هم الأنبياء، عليهم السلام.
وقال السُّدِّيّ: هم أهل عليين.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}، قال: يوشع بن نون، سبق إلى موسى، ومؤمن آل يس، سبق إلى عيسى، وعلي بن أبي طالب، سبق إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه ابن أبي حاتم، عن محمد بن هارون الفلاس، عن عبد الله بن إسماعيل المدائني البزاز، عن شُعَيْب بن الضحاك المدائني، عن سفيان بن عُيَيْنَة، عن ابن أبي نَجِيح به.
وقال ابن أبي حاتم: وذكر محمد بن أبي حماد، حدثنا مِهْرَان، عن خارجة، عن قُرَّة، عن ابن سِيرين: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} الذين صلوا للقبلتين.
ورواه ابن جرير من حديث خارجة، به.
وقال الحسن وقتادة: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} أي: من كل أمة.
وقال الأوزاعي، عن عثمان بن أبي سودة أنه قرأ هذه الآية: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} ثم قال: أولهم رواحًا إلى المسجد، وأولهم خروجًا في سبيل الله.
وهذه الأقوال كلها صحيحة، فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا، كما قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ} [آل عمران: 133]، وقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ} [الحديد: 22]، فمن سابق إلى هذه الدنيا وسبق إلى الخير، كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة، فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان؛ ولهذا قال تعالى: {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن زكريا القزاز الرازي، حدثنا خارجة بن مُصعَب، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو قال: قالت الملائكة: يا رب، جعلت لبني آدم الدنيا فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون، فاجعل لنا الآخرة. فقال: لا أفعل. فراجعوا ثلاثا، فقال: لا أجعل من خلقت بيدي كمن قلت له: كن، فكان. ثم قرأ عبد الله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}.
وقد روى هذا الأثر الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه: الرد على الجهمية، ولفظه: فقال الله عز وجل: «لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي، كمن قلت له: كن فكان».

.تفسير الآيات (13- 26):

{ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا (25) إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا (26)}.
يقول تعالى مخبرًا عن هؤلاء السابقين أنهم {ثُلَّةٌ} أي: جماعة {مِنَ الأوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ}. وقد اختلفوا في المراد بقوله: {الأوَّلِينَ}، و{الآخِرِينَ}. فقيل: المراد بالأولين: الأمم الماضية، والآخرين: هذه الأمة. هذا رواية عن مجاهد، والحسن البصري، رواها عنهما ابن أبي حاتم. وهو اختيار ابن جرير، واستأنس بقوله صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة». ولم يحك غيره ولا عزاه إلى أحد.
ومما يستأنس به لهذا القول، ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع، حدثنا شريك، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: لما نزلت: {ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثلث أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة- أو: شطر أهل الجنة- وتقاسمونهم النصف الثاني».
ورواه الإمام أحمد، عن أسود بن عامر، عن شريك، عن محمد، بياع الملاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، فذكره. وقد روي من حديث جابر نحو هذا، ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق هشام بن عمار: حدثنا عبد ربه بن صالح، عن عروة بن رويم، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم: لما نزلت: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}، ذكر فيها {ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ}، قال عمر: يا رسول الله، ثلة من الأولين وقليل منا؟ قال: فأمسك آخر السورة سنة، ثم نزل: {ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ}، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عمر، تعال فاسمع ما قد أنزل الله: {ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ}، ألا وإن من آدم إليَّ ثلة، وأمتي ثلة، ولن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان من رعاة الإبل، ممن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له».
هكذا أورده في ترجمة عروة بن رويم، إسنادا ومتنا، ولكن في إسناده نظر. وقد وردت طرق كثيرة متعددة بقوله صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة». الحديث بتمامه، وهو مفرد في صفة الجنة ولله الحمد والمنة. وهذا الذي اختاره ابن جرير هاهنا، فيه نظر، بل هو قول ضعيف؛ لأن هذه الأمة هي خير الأمم بنص القرآن، فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها، اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة. والظاهر أن المقربين من هؤلاء أكثر من سائر الأمم، والله أعلم. فالقول الثاني في هذا المقام، هو الراجح، وهو أن يكون المراد بقوله: {ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ} أي: من صدر هذه الأمة، {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} أي: من هذه الأمة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا عفان، حدثنا عبد الله بن بكر المزني، سمعت الحسن: أتى على هذه الآية: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} فقال: أما السابقون، فقد مضوا، ولكن اللهم اجعلنا من أهل اليمين.
ثم قال: حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا السُّرِّيّ بن يحيى قال: قرأ الحسن: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ} ثلة ممن مضى من هذه الأمة.
وحدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة المَنْقَري، حدثنا أبو هلال، عن محمد بن سيرين، أنه قال في هذه الآية: {ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} قال: كانوا يقولون، أو يرجون، أن يكونوا كلهم من هذه الأمة. فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه الأمة. ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها، فيحتمل أن يعم الأمر جميع الأمم كل أمة بحسبها؛ ولهذا ثبت في الصحاح وغيرها، من غير وجه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم». الحديث بتمامه.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا زياد أبو عمر، عن الحسن، عن عمار بن ياسر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره»، فهذا الحديث، بعد الحكم بصحة إسناده، محمول على أن الدين كما هو محتاج إلى أول الأمة في إبلاغه إلى من بعدهم، كذلك هو محتاج إلى القائمين به في أواخرها، وتثبيت الناس على السنة وروايتها وإظهارها، والفضل للمتقدم. وكذلك الزرع الذي يحتاج إلى المطر الأول وإلى المطر الثاني، ولكن العمدة الكبرى على الأول، واحتياج الزرع إليه آكد، فإنه لولاه ما نبت في الأرض، ولا تعلق أساسه فيها؛ ولهذا قال، عليه السلام: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، إلى قيام الساعة». وفي لفظ: «حتى يأتي أمر الله وهم كذلك». والغرض أن هذه الأمة أشرف من سائر الأمم، والمقربون فيها أكثر من غيرها وأعلى منزلة؛ لشرف دينها وعظم نبيها. ولهذا ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن في هذه الأمة سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب. وفي لفظ: «مع كل ألف سبعون ألفا». وفي آخر: «مع كل واحد سبعون ألفا».
وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا هشام بن مرثد الطبراني، حدثنا محمد- هو ابن إسماعيل بن عياش- حدثني أبي، حدثني ضَمْضَم- يعني ابن زُرْعَة- عن شريح- هو ابن عبيد- عن أبي مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما والذي نفسي بيده، ليبعثن منكم يوم القيامة مثل الليل الأسود زمرة جميعها يحيطون الأرض، تقول الملائكة لما جاء مع محمد صلى الله عليه وسلم أكثر مما جاء مع الأنبياء، عليهم السلام».
وحسن أن يذكر هاهنا عند قوله: {ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة حيث قال: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أخبرنا أبو عمرو بن مطر، حدثنا جعفر- هو بن محمد بن المستفاض الفريابي- حدثني أبو وهب الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله بن مُسَرِّح الحرَّاني، حدثنا سليمان بن عطاء القرشي الحراني، عن مسلمة بن عبد الله الجهني، عن عمه أبي مَشْجَعة بن رِبْعِي، عن ابن زَمْل الجهني، رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح قال، وهو ثان رجله: «سبحان الله وبحمده. أستغفر الله، إن الله كان توابا» سبعين مرة، ثم يقول: «سبعين بسبعمائة، لا خير لمن كانت ذنوبه في يوم واحد أكثر من سبعمائة». ثم يقول ذلك مرتين، ثم يستقبل الناس بوجهه، وكان يعجبه الرؤيا، ثم يقول: «هل رأى أحد منكم شيئا؟» قال ابن زمل: فقلت: أنا يا رسول الله. فقال: «خير تلقاه، وشر توقاه، وخير لنا، وشر على أعدائنا، والحمد لله رب العالمين. اقصص رؤياك». فقلت: رأيت جميع الناس على طريق رحب سهل لا حب، والناس على الجادة منطلقين، فبينما هم كذلك، إذ أشفى ذلك الطريق على مرج لم تر عيني مثله، يرف رفيفا يقطر ماؤه، فيه من أنواع الكلأ قال: وكأني بالرعلة الأولى حين أشفوا على المرج كبّروا، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق، فلم يظلموه يمينا ولا شمالا. قال: فكأني أنظر إليهم منطلقين. ثم جاءت الرعلة الثانية وهم أكثر منهم أضعافا، فلما أشفوا على المرج كبّروا، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق، فمنهم المرتع، ومنهم الآخذ الضغث. ومضوا على ذلك. قال: ثم قدم عظم الناس، فلما أشفوا على المرج كبروا وقالوا: (هذا خير المنزل). كأني أنظر إليهم يميلون يمينا وشمالا فلما رأيت ذلك، لزمت الطريق حتى آتي أقصى المرج، فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات وأنت في أعلاها درجة، وإذا عن يمينك رجل آدم شثل أقنى، إذا هو تكلم يسمو فيفرع الرجال طولا وإذا عن يسارك رجل ربعة باذ كثير خيلان الوجه، كأنما حمم شعره بالماء، إذا هو تكلم أصغيتم إكراما له. وإذا أمام ذلك رجل شيخ أشبه الناس بك خلقا ووجها، كلكم تؤمونه تريدونه، وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف، وإذا أنت يا رسول الله كأنك تبعثها. قال: فامتقع لون رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سري عنه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّا ما رأيت من الطريق السهل الرحب اللا حب، فذاك ما حملتم عليه من الهدى وأنتم عليه. وأما المرج الذي رأيت، فالدنيا مضيت أنا وأصحابي لم نتعلق منها بشيء، ولم تتعلق منا، ولم نردها ولم تردنا. ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدنا وهم أكثر منا أضعافا، فمنهم المرتع، ومنهم الآخذ الضغث، ونجوا على ذلك. ثم جاء عظم الناس، فمالوا في المرج يمينا وشمالا فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأما أنت، فمضيت على طريقة صالحة، فلن تزال عليها حتى تلقاني. وأما المنبر الذي رأيت فيه سبع درجات وأنا في أعلاها درجة، فالدنيا سبعة آلاف سنة، أنا في آخرها ألفا. وأما الرجل الذي رأيت على يميني الآدم الشثل، فذلك موسى، عليه السلام، إذا تكلم، يعلو الرجال بفضل كلام الله إياه. والذي رأيت عن يساري الباز الربعة الكثير خيلان الوجه، كأنما حمم شعره بالماء، فذلك عيسى ابن مريم، نكرمه لإكرام الله إياه. وأما الشيخ الذي رأيت أشبه الناس بي خلقا ووجها فذاك أبونا إبراهيم، كلنا نؤمه ونقتدي به. وأما الناقة التي رأيت ورأيتني أبعثها، فهي الساعة، علينا تقوم، لا نبي بعدي، ولا أمة بعد أمتي». قال: فما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رؤيا بعد هذا إلا أن يجيء الرجل، فيحدثه بها متبرعا.
وقوله: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} قال ابن عباس: أي مرمولة بالذهب، يعني: منسوجة به.
وكذا قال مجاهد، وعِكْرِمَة، وسعيد بن جُبَيْر، وزيد بن أسلم، وقتادة، والضحاك، وغيره.
وقال السُّدِّيّ: مرمولة بالذهب واللؤلؤ.
وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت.
وقال ابن جرير: ومنه سمي وضين الناقة الذي تحت بطنها، وهو فعيل بمعنى مفعول؛ لأنه مضفور، وكذلك السرر في الجنة مضفورة بالذهب واللآلئ.
وقال: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} أي: وجوه بعضهم إلى بعض، ليس أحد وراء أحد. {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} أي: مخلدون على صفة واحدة، لا يكبرون عنها ولا يشيبون ولا يتغيرون، {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}، أما الأكواب فهي: الكيزان التي لا خراطيم لها ولا آذان. والأباريق: التي جمعت الوصفين. والكؤوس: الهنابات، والجميع من خمر من عين جارية مَعِين، ليس من أوعية تنقطع وتفرغ، بل من عيون سارحة.
وقوله: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ} أي: لا تصدع رؤوسهم ولا تنزف عقولهم، بل هي ثابتة مع الشدة المطربة واللذة الحاصلة.
وروى الضحاك، عن ابن عباس، أنه قال: في الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول. فذكر الله خمر الجنة ونزهها عن هذه الخصال.
وقال مجاهد، وعِكْرِمَة، وسعيد بن جُبَيْر، وعطية، وقتادة، والسُّدِّيّ: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} يقول: ليس لهم فيها صداع رأس.
وقالوا في قوله: {وَلا يُنزفُونَ} أي: لا تذهب بعقولهم.
وقوله: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي: ويطوفون عليهم بما يتخيرون من الثمار.
وهذه الآية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخير لها، ويدل على ذلك حديث: «عِكْراش بن ذؤيب» الذي رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي، رحمه الله، في مسنده: حدثنا العباس بن الوليد النَّرْسِي، حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية، حدثنا عبيد الله بن عِكْراش، عن أبيه عِكْراش بن ذؤيب، قال: بعثني بنو مرة في صدقات أموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت المدينة فإذا هو جالس بين المهاجرين والأنصار، وقدمت عليه بإبل كأنها عروق الأرطى، قال: «من الرجل؟».
قلت: عِكْراش بن ذؤيب. قال: «ارفع في النسب»، فانتسبت له إلى «مرة بن عبيد»، وهذه صدقة «مرة بن عبيد». فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: هذه إبل قومي، هذه صدقات قومي. ثم أمر بها أن توسم بميسم إبل الصدقة وتضم إليها. ثم أخذ بيدي فانطلقنا إلى منزل أم سلمة، فقال: «هل من طعام؟» فأتينا بحفنة كثيرة الثريد والوذر، فجعل يأكل منها، فأقبلت أخبط بيدي في جوانبها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليسرى على يدي اليمنى، فقال: «يا عِكْراش، كل من موضع واحد، فإنه طعام واحد». ثم أتينا بطبق فيه تمر، أو رطب- شك عبيد الله رطبا كان أو تمرا- فجعلت آكل من بين يدي، وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق، وقال: «يا عِكْراش، كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد». ثم أتينا بماء، فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ومسح بِبَلَلِ كفيه وجهه وذراعيه ورأسه ثلاثا، ثم قال: «يا عِكْراش، هذا الوضوء مما غيرت النار».
وهكذا رواه الترمذي مطولا وابن ماجه جميعًا، عن محمد بن بشار، عن أبي الهزيل العلاء بن الفضل، به.
وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديثه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز بن أسد وعفان- وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا شيبان- قالوا: حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا ثابت، قال: قال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا، فربما رأى الرجل الرؤيا فسأل عنه إذا لم يكن يعرفه، فإذا أثني عليه معروف، كان أعجب لرؤياه إليه. فأتته امرأة فقالت: يا رسول الله، رأيت كأني أتيت فأخرجت من المدينة، فأدخلت الجنة فسمعت وَجبَة انتحبت لها الجنة، فنظرت فإذا فلان ابن فلان، وفلان ابن فلان، فسَمَّتْ اثني عشر رجلا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث سرية قبل ذلك، فجيء بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم، فقيل: اذهبوا بهم إلى نهر البيدخ- أو: البيذخ- قال: فغمسوا فيه، فخرجوا ووجوههم كالقمر ليلة البدر، فأتوا بصحفة من ذهب فيها بُسر، فأكلوا من بُسره ما شاؤوا، فما يقلبونها من وجه إلا أكلوا من الفاكهة ما أرادوا، وأكلت معهم. فجاء البشير من تلك السرية، فقال: كان من أمرنا كذا وكذا، وأصيب فلان وفلان. حتى عد اثني عشر رجلا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة فقال: «قصي رؤياك» فقصتها، وجعلت تقول: فجيء بفلان وفلان كما قال.
هذا لفظ أبي يعلى، قال الحافظ الضياء: وهذا على شرط مسلم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا معاذ بن المثنى، حدثنا علي بن المديني، حدثنا ريحان بن سعيد، عن عباد بن منصور، عن أيوب، عن أبي قِلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل إذا نزع ثمرة في الجنة، عادت مكانها أخرى».
وقوله: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}، قال الإمام أحمد:
حدثنا سيار بن حاتم، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، حدثنا ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن طير الجنة كأمثال البخت، يرعى في شجر الجنة». فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن هذه لطير ناعمة فقال: «أكلتها أنعم منها- قالها ثلاثا- وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها».
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وروى الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه صفة الجنة من حديث إسماعيل بن علي الخُطَبِيّ، عن أحمد بن علي الخُيُوطي، عن عبد الجبار بن عاصم، عن عبد الله بن زياد، عن زُرْعَة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: ذكرت عند النبي صلى الله عليه وسلم طوبى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، هل بلغك ما طوبى؟» قال: الله ورسوله أعلم. قال: «طوبى شجرة في الجنة، ما يعلم طولها إلا الله، يسير الراكب تحت غصن من أغصانها سبعين خريفا، ورقها الحلل، يقع عليها الطير كأمثال البخت». فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن هناك لطيرا ناعما؟ قال: «أنعم منه من يأكله، وأنت منهم إن شاء الله».
وقال قتادة في قوله: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}: ذكر لنا أن أبا بكر قال: يا رسول الله، إني أرى طيرها ناعمة كما أهلها ناعمون. قال: «من يأكلها- والله يا أبا بكر- أنعم منها، وإنها لأمثال البخت، وإني لأحتسب على الله أن تأكل منها يا أبا بكر».
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني مجاهد بن موسى، حدثنا مَعْنُ بن عيسى، حدثني ابن أخي ابن شهاب، عن أبيه، عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكوثر فقال: «نهر أعطانيه ربي، عز وجل، في الجنة، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طيور أعناقها يعني كأعناق الجزر». فقال عمر: إنها لناعمة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آكلها أنعم منها».
وكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن القَعْنَبِي، عن محمد بن عبد الله بن مسلم بن شهاب، عن أبيه، عن أنس، وقال: حسن.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسي، حدثنا أبو معاوية، عن عبيد الله بن الوليد الوَصَّافي، عن عطية العَوْفِيّ، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة لطيرا فيه سبعون ألف ريشة، فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة فينتفض، فيخرج من كل ريشة- يعني: لونا- أبيض من اللبن، وألين من الزبد، وأعذب من الشهد، ليس منها لون يشبه صاحبه ثم يطير».
هذا حديث غريب جدا، والوَصَّافي وشيخه ضعيفان. ثم قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح- كاتب الليث- حدثني الليث، حدثنا خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي حازم عن عطاء، عن كعب، قال: إن طائر الجنة أمثال البخت، يأكل مما خلق من ثمرات الجنة، ويشرب من أنهار الجنة، فيصطففن له، فإذا اشتهى منها شيئا أتاه حتى يقع بين يديه، فيأكل من خارجه وداخله ثم يطير لم ينقص منه شيء. صحيح إلى كعب.
وقال الحسن بن عرفة: حدثنا خلف بن خليفة، عن حميد الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا».
وقوله: {وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} قرأ بعضهم بالرفع، وتقديره: ولهم فيها حور عين. وقراءة الجر تحتمل معنيين، أحدهما: أن يكون الإعراب على الاتباع بما قبله؛ لقوله: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ. وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. وَحُورٌ عِينٌ}، كَمَا قَالَ {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6]، وكما قال: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} [الإنسان: 21]. والاحتمال الثاني: أن يكون مما يطوف به الولدان المخلدون عليهم الحور العين، ولكن يكون ذلك في القصور، لا بين بعضهم بعضا، بل في الخيام يطوف عليهم الخدام بالحور العين، والله أعلم.
وقوله: {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أي: كأنهن اللؤلؤ الرطب في بياضه وصفائه، كما تقدم في سورة الصافات {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 49] وقد تقدم في سورة الرحمن وصفهن أيضا؛ ولهذا قال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: هذا الذي اتحفناهم به مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل.
ثم قال: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا. إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا} أي: لا يسمعون في الجنة كلامًا لاغيا، أي: غثا خاليا عن المعنى، أو مشتملا على معنى حقير أو ضعيف، كما قال: {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية: 11]
أي: كلمة لاغية {وَلا تَأْثِيمًا} أي: ولا كلامًا فيه قبح، {إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا} أي: إلا التسليم منهم بعضهم على بعض، كما قال: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إبراهيم: 23] وكلامهم أيضًا سالم من اللغو والإثم.